في منتديات بوعدك، بنحرص دايمًا على تقديم محتوى ثقافي وتاريخي وفكري يفتح آفاق جديدة للفهم والمعرفة. ومن هنا بنقدّم لكم هذا المقال عن علم الكَبّالا، مش بهدف ديني أو عقائدي، لكن كرحلة معرفية نغوص فيها سوا لفهم أحد أعمق المفاهيم الفكرية اللي ظهرت في التاريخ اليهودي القديم.
هدفنا إننا نعرض المعلومة بشكل محايد ومبسط يساعد القارئ على تكوين فكرة عامة عن هذا المجال، من غير ما ندعو لأي معتقد أو ممارسة روحية، لأن الغرض هنا هو الثقافة والعلم والفهم فقط.
علم القبالة | الكابالا
علم الكَبّالا (أو الكابالا) هو مسار فكرى وروحانى داخل اليهودية يمسّ العمق الرمزى لمعنى الوجود، ولعلاقة الإنسان بالله والعالم. كلمة «קַבָּלָה» بالعبرية تعنى «التلقّي» أو «القبول» — بمعنى المعرفة التي تُنقَل من معلّم إلى تلميذ، وتُستقبل في الداخل.
هو ليس ديانة جديدة، ولا تقنية سحرية بمعناها الشعبي، بل إطار من التأمّل والرمزية والتصوّر عن الكون والروح والعلاقة. سنغوص سوياً في أصوله، أفكاره الأساسية، اتجاهاته، ومعنى ممارسته اليوم.
الأصول والتاريخ باختصار لعلم "الكابالا"
- نشأت في اليهودية القديمة بعض أشكال التصوّف والبحث عن الباطن، لكن الكَبّالا كما نعرفها بدأت تتبلور في العصور الوسطى، خاصة في جنوب فرنسا وإسبانيا خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر.
- أحد أشهر كتب الكَبّالا هو الزوهر (Zohar) الذي ظهر في القرن الثالث عشر، ويقدّمه كثيرون كمفتاح رئيسى لفهم هذا العلم.
- ثم ظهر في القرن السادس عشر حقلٌ متجدد في مدينة صَفْد (Safed) بفلسطين، بُعيد انتشار اليهود من إسبانيا، حيث عمد بعض كبار المفكرين إلى تطوير أفكار الكَبّالا بصورة منهجية.
- عبر التاريخ، ظلت الكَبّالا دراسة مقنّنة في أغلب الأحيان، حيث ربطها بعض الحاخامات بأنها تحتاج إلى نضج، وقدْرٍ من الدراسة التقليدية قبل الخوض فيها.
الأفكار الأساسية في الكَبّالا
- الإله "اللامتناهي" – Ein Sof: وفق الكَبّالا، يبدأ كل شيء من هذه النقطة: إله لا حدود له، لا يمكن للعقل البشري أن يصدّره أو يحيط به كليّاً. "Ein Sof" يعني «لا نهاية»، وهو الأصل اللامادي لكل الموجودات. من هذا الأصل تنبثق العوالم، أو تتجلّى القوى التي تُشكّل الواقع.
- العشرة سبيرات (Sefirot): وهي عشرة "مجالات" أو "انبعاثات" إلهية تُطلِق منها الطاقة إلى العالم المادّي، وتُظهِر كيف يظهر الإله في الوجود. من بين هذه: "الحكمة" (Chokhmah)، "الفهم" (Binah)، "الملكوث" (Malkuth). هذه السبيرات تعتبر خريطة للكون وللنفس البشرية. بمعنى أن الإنسان قادر أن يرى فيها صورته، وأن يعود تدريجياً إلى مصدره.
- هدف الإنسان والمشاركة في التصحيح – تِيكّون عَالَم (Tikkun Olam) الكَبّالا ترى أن للإنسان دورًا: ليس مجرد مخلوق يتلقى، بل شريك في “إصلاح العالم” ورفع الوجود. من خلال أعمال الخير، التأمّل، فهم الذات، والربط بين القديم والجديد، يسعى الإنسان لحلّ "كسْر" أو "ذِرّات" مُتشتّتة من النور الإلهي. يعني ذلك أن الكَبّالا ليست "فرارًا من الواقع" فحسب، بل محاولة لربط الروح بالمادّة، وربط الإنسان بالله عبر نشاطه فى هذه الحياة.
- الرموز والأرقام والحروف في الكَبّالا تُعتبر الحروف العبرية والأرقام أدوات رمزية تكشف عن معانٍ عميقة. مثلاً، ترتيب الحروف، مجموع قيمها العددية، والتبديل بينها كلها تُستخدم لفهم النصوص المقدّسة بطريقة "باطنية". هذا ما يُعرف غالبًا بـ “جيماتريا” (Gematria)، وهي أحد أدوات الكَبّالا لفهم الأسرار.
التيّارات والممارسات
الكَبّالا ليست مسارًا واحدًا ثابتًا؛ بل يوجد فيها توجهات متعددة:
- الكَبّالا النظرية: تهتم بفهم البُنى المجردة – العوالم، الأرواح، السبيرات.
- الكَبّالا التأمّلية/التجريبية: حيث يسعى المتدرّب إلى تجارب روحية، تغيّر في الوعي، أو حالة من التوحُّد مع الحقيقة.
- الكَبّالا العملية أو “السحرية”: استخدام أسماء إلهية، أمور تشديد الربط بين المادية والروحية من خلال رموز وتطويع قوى خفية، لكنها أقل شيوعًا وأشدّ تحذيراً فى التراث.
محاذير ونقاط يجب الانتباه إليها
- قد حُدّدت سابقًا شروط لدراسة الكَبّالا: مثل أن يكون طالبها متزوجاً، مطلعاً على التوراة والتلمود، وأن يكون عمره مناسباً.
- بعض ما يُقدَّم اليوم تحت اسم "كَبّالا" قد يكون مزيجًا تجارىًّا أو روحانيات شعبية تختلف عن التقليد المنهجي.
- الكَبّالا ليست بالتأكيد "علاجًا سحريًا" بمعنى أن تنقذك دون عمل داخلي؛ بل تتطلب جهدًا نفسياً وروحياً.
- المنهج ليس للجميع بنفس العمق؛ يجب الحذر عند الدخول دون توضيح أو مرشد.
لماذا يهتم بها البعض اليوم؟
- لأنها تمنح رؤية أعمق للذات: الإنسان ليس مجرد جسد، بل روح، وعلاقته بالله ليست منفصلة، بل تفاعلية.
- لأنها تطرح معنى "المشاركة" فى خلق أو إصلاح الواقع، وهو ما يجذب من يبحث عن روحانيّة نشطة لا مجرد تلقين.
- لأنها تربط بين القديم والمادّي: عبر رموزٍ تبدو قديمة لكن يمكن أن تُطبّق فى فهم الذات المعاصرة.
- لأنها قُدّمت كذلك فى الثقافة الشعبية – ما جعلها “رائجة” ورغم ذلك هذا يستوجب تفكيكها وتمييزها من التقليد الحقيقى.
- الأسماء والأرقام تؤمن الكبالا بأن الحروف العبرية والأرقام تحمل طاقة ومعاني سرّية، ويُستخدم “علم الجِمَتْرِيَا” (Gematria) لفك رموز النصوص المقدسة.
![]() |
| علم القابالا |
كيف يمكن أن نفهمها في حياتنا؟
على الرغم من أن الكَبّالا ليست مجرد "خُطوات تقنية" يمكن تنفيذها بسرعة، إلا أنّ هناك مداخل ميسّرة يمكن التفكير فيها:
- التأمّل في علاقة الذات بالكون: كيف أن وجودك ليس منفصلاً عن “الكثير” بل جزء منه.
- التفكير في الأفعال اليومية كجزء من "الإصلاح" وليس فقط كمُهمة عابرة.
- استخدام الرمز أو الصورة (مثلاً “شجرة الحياة” التي تمثّل السبيرات) كأداة لوعي النفس.
- الانتباه إلى أن المعرفة ليست هدفًا بحد ذاته، بل تغيّر داخلى في كيفية العيش. كما يقول أحد علماء الكَبّالا: "أن تتعلّم الكَبّالا هو أن تعيشها."
![]() |
| «الكابالا رحلة من الظل إلى النور – الكشف عن أسرار الحكمة اليهودية العميقة» |


